السلام مقابل الاستسلام- إسرائيل واستراتيجية تفتيت المنطقة بدعم أمريكي

المؤلف: عريب الرنتاوي08.24.2025
السلام مقابل الاستسلام- إسرائيل واستراتيجية تفتيت المنطقة بدعم أمريكي

لا يختلف اثنان من ذوي الفكر السليم والضمير الحي على ضرورة التخلي عن قناعتين راسختين، وهما الاعتقاد بأن إسرائيل تسعى إلى سلام حقيقي مع العرب، حتى لو كان ذلك في إطار ما يسمى بـ "السلام مقابل السلام" المرفوض، والوهم بأن الولايات المتحدة وإسرائيل تتبنيان وجهات نظر متباينة، وأن بالإمكان التعويل على وجود اختلافات جوهرية في مواقفهما وأولوياتهما، أو حتى استغلال النفوذ الأمريكي لكبح جماح إسرائيل.

لقد كشفت لنا الأحداث الدامية والنزاعات المتفاقمة التي عصفت بالمنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 عن حقيقتين دامغتين ترسختا أولاً في غزة ولبنان، ثم تجدد تأكيدهما في حرب الأيام الاثني عشر على إيران، وصولاً إلى التدخل السافر في سوريا براً وجواً، واستهداف شعبها وهويتها القومية. فما الذي تعنيه هذه التطورات؟ لنتأمل في المشهد السوري الراهن.

فجأة ودون سابق إنذار، أبدت الولايات المتحدة حماسة لافتة تجاه النظام الانتقالي في دمشق في سلسلة انفتاح مفاجئة، بل إن الرئيس الأمريكي أشاد بالرئيس السوري أحمد الشرع، بعبارات لم يسمعها منه أقرب حلفائه وأصدقائه. والأدهى من ذلك، أنها رفعت العقوبات المفروضة على سوريا وعلى "هيئة تحرير الشام"، في خطوة لم تنعم بها حتى منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، رغم كل ما تضمنه هذا الاتفاق من تنازلات.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد استرسل توماس باراك، رجل الأعمال المطلع على خفايا المنطقة وتاريخها، في شرح ما لم يبح به ترامب، موجهاً سهام النقد إلى اتفاقية سايكس بيكو، ومثيراً بذلك حنين القوميين العرب والقوميين السوريين الاجتماعيين إلى زمن "بلاد الشام"، ملوحاً بإمكانية عودتها إذا استمر لبنان في تردده ومماطلته في موضوع نزع سلاح حزب الله، ومقترحاً أن تتكفل "سوريا الجديدة" بهذه المهمة. ومن خلال حديثه، بدا أن سوريا تحظى بمكانة محورية في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للمنطقة والشرق الأوسط الجديد.

للوهلة الأولى، بدا وكأن واشنطن نجحت في كبح جماح تل أبيب، وحملها على تبني مقاربتها تجاه "سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر". خفتت حدة تصريحات جدعون ساعر حول "حلف الأقليات"، وتراجعت التهديدات الموجهة للنظام الجديد، المصنف إسرائيلياً بـ "الإرهابي". وبدأت الوفود الإسرائيلية تلتقي بنظيراتها السورية في عواصم مختلفة، سراً وعلانية، بشكل مباشر أو غير مباشر، مما أثار التكهنات والتخمينات حول طبيعة الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه.

لكن سرعان ما تبددت كل هذه التوقعات والفرضيات، بشكل مفاجئ وصادم، ليثبت أن إسرائيل ما زالت متمسكة باستراتيجيتها الرامية إلى تفتيت سوريا وتقسيمها على أسس عرقية ومذهبية وطائفية، وأن شهيتها للاستيلاء على المزيد من الأراضي والقمم الاستراتيجية ومصادر المياه لم تتأثر بوعود السلام والتطبيع. وأن أية حوادث، مهما كانت محدودة، يتم استغلالها كذريعة لإخراج جميع المخططات السوداوية إلى العلن، كما حدث في السويداء.

كنا نعتقد أن إسرائيل، التي رفضت في السابق صيغة "الأرض مقابل السلام"، ما زالت متمسكة بمعادلة سبق لنتنياهو نفسه أن طورها: "السلام مقابل السلام".

لم تطالب القيادة السورية الجديدة بأكثر من تطبيق هذه المعادلة، وأرسلت ما يكفي من رسائل "حسن النية"، بل قبلت بصيغة "أصعب" لاستعادة اتفاق 1974، لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً مع حكومة اليمين المتطرف.

فكل تلك الوعود والنوايا ورسائل الطمأنينة لم تؤثر في المهووسين بالانغلاق وكراهية الآخر، ليكشفوا فجأة عن معادلة جديدة تحكم علاقاتهم، ليس مع سوريا فحسب، بل مع العرب وجوارهم الإقليمي أيضاً: "السلام مقابل الاستسلام"، "السلام مقابل الخنوع" دون قيد أو شرط.

عند هذه النقطة الحاسمة من تطور المشهد الإسرائيلي-السوري، توجهت أنظار المراقبين إلى واشنطن، لرصد تداعيات "اختلاف وجهات النظر" وقياس "تباين الأولويات". لكن خيبة أملهم كانت كبيرة جداً، فإسرائيل تدمر عشرات المواقع السيادية في قلب دمشق، وعلى بعد أمتار قليلة من مكاتب الرئيس الذي وصفه ترامب بأنه "شاب طيب وشجاع وقوي"، وتنذر بتحويل سوريا إلى جحيم لا يطاق وتسعى لخلق الظروف المناسبة لتحريض السوريين على بعضهم البعض، وللتأليب على حكمهم الجديد، تمهيداً لإحداث الفوضى والتفتيت والتقسيم، ولإشعال "حرب المئة عام" بين الطوائف والمذاهب والأقوام المكونة للمنطقة.

لا نجد أي تنديد أو إدانة، حتى على المستوى الشفهي، ولا تحميل لإسرائيل أي مسؤولية، ولا إنذارات بوقف انتهاكاتها لسوريا الجديدة التي تعهد الرئيس بمساعدتها لكي تساعد نفسها.. كل ما في الأمر هو مجرد "سوء فهم وتفاهم"، وتصريحات معبرة عن "التفاؤل" بقرب التوصل إلى وقف إطلاق النار، تماماً كما فعلوا في غزة، طوال عامين كاملين من الحرب والحصار والتجويع والترويع والتطهير والإبادة. موقف واشنطن من العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا، يشرح بالنار والقذائف والصواريخ، ما ظل مبهماً في تصريحات توماس باراك حول "سايكس بيكو" و"بلاد الشام". تصريحاته الأخيرة أكدت على هذا النهج حيث قال إن الحكومة السورية يجب أن تتحمل المسؤولية ويجب أن تتم محاسبتها وأن أميركا لا تمتلك نفوذاً على قرارات إسرائيل.

لقد ضاق الرجل ذرعاً بخرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، والدول الوطنية "المصنعة" التي نشأت في إثرها، ولكنه بالطبع ليس من أنصار "الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة"، ولا هو من أتباع "الهلال الخصيب ونجمته القبرصية" لأنطون سعادة، بل يعيد إنتاج خرائط أسلافه من المحافظين الجدد الأكثر تطرفاً، الذين دعموا فكرة إعادة رسم خرائط المنطقة، وترسيم حدودها على أساس خطوط الدم بين الطوائف والأقوام والمذاهب.

بهذا المعنى، يبدو الرجل "محقاً" في انتقاده لاتفاقية سايكس بيكو التي أنتجت "دول الفسيفساء" القومية والعرقية، وفي استحضاره لـ "بلاد الشام"، ومنح سوريا مكانة مركزية فيها.

لكن السؤال الذي لم يشغل بالنا كثيراً هو: عن أي سورية يتحدث الرجل؟ نعرف الآن أن عينيه مثبتتان على دولة سورية سنية، تكون مركزاً لحواضر سنية ممتدة من حوض الرافدين إلى شرق المتوسط، أما بقية المناطق والطوائف، فستكون تابعة لها أو منفصلة عنها، وهذا الأمر متروك لتطورات السياسة والميدان.

إن "مركزية سوريا الجديدة" في تصور باراك ورفاقه، تنبع من قدرتها على أن تكون دولة عازلة بين قوتين إقليميتين كبيرتين، تمتلكان "إرثاً إمبراطورياً"، وهما طامعتان وتدخّليتان، ولا تحتفظان بعلاقات ودية ظاهرة مع إسرائيل.

إن مركزية الدولة السنية، العابرة للحدود، تخدم هدفاً آخر: دفع بقية الطوائف والأقوام للبحث عن مستقبلات بديلة، وتشكيل أحزمة من الدويلات والإمارات، لا وظيفة لها سوى حماية إسرائيل والاستقواء بها.

لم يطور بارّاك نظريته من فراغ. فمن الناحية الفكرية والاستراتيجية، يستمد الرجل إلهامه من إرث طويل لمدرسة في التفكير الأمريكي اليميني المحافظ.

ومن الناحية العملية، فإنه يرى حراكاً عميقاً ممتداً في المنطقة منذ سنوات، يعيد تعريف مفاهيم الولاء والانتماء، ويستبدل ما هو "عمودي" منها، كالولاء للدولة، بما هو "أفقي"، عابر لحدود الدول، ويجمع أفراد الأعراق والأديان والطوائف، حتى وهم موزعون على عدة دول، مع بعضهم البعض.

أمر كهذا يقع في صميم الحلم الصهيوني، ويحتل مكانة استراتيجية في تل أبيب، أما واشنطن، فلن تمانع إذا عملت إسرائيل على تسريع ولادة هذه الكيانات المشوهة، وإذا اختلفت مع تل أبيب، فربما يتعلق الخلاف بالوتيرة والسرعة.

نتنياهو، الذي لا يفهم سوى لغة القوة والعنف، يستعجل تحقيق مكاسب شخصية، وليس لديه أي أفق سياسي أو "أدوات ناعمة" أخرى. في المقابل، ترغب واشنطن في الوصول إلى الهدف ذاته، ولكن بتدرج أكبر، وباستخدام الدبلوماسية والعقوبات، للحفاظ على علاقاتها مع حلفائها من العرب والأتراك.

إن واشنطن، وفي توزيع مفضوح للأدوار مع تل أبيب، سواء كان ذلك باتفاق مسبق أو من باب "تحصيل الحاصل"، تسعى جاهدة لقطف ثمار العنف الإسرائيلي، بعد أن وفرت لها الحماية وكل عناصر القوة والاقتدار، وبعد قليل من "العتب" و"التلاوم".

تدرك واشنطن تمام الإدراك أن إسرائيل تقوم بدور الجرافة "دي-9" التي اشتهرت في غزة، في تمهيد الطرق لأحلامها الاستراتيجية، فلا ينخدع أحد بحكاية الخلافات بين نتنياهو وترامب، أو بين تل أبيب وواشنطن، فذلك مجرد تقاسم مفضوح للأدوار.

من وجهة نظر واشنطن، وبدرجة أقل تل أبيب، فإن تشكيل الشرق الأوسط الجديد هو سلسلة متصلة من التهدئات والتسويات التي تفصل بين جولة وأخرى من جولات الحرب والمواجهة مع الخصوم، والطريق إلى ذلك الهدف محفوف بسلسلة من الحروب والمعارك بين الحروب، ولا بأس من انخراط واشنطن في وساطات ومفاوضات، وسيظل قادتها ومبعوثوها يعبرون عن تفاؤلهم بقرب التوصل إلى تهدئة هنا أو اتفاق لوقف النار هناك، وقد تمتد حبال التخدير والخداع لأسابيع وأشهر، ولسنوات إذا اقتضى الأمر، طالما أن النتيجة تصب في مصلحة إسرائيل، وطالما أن المكاسب تتزايد مع كل تقدم تحرزه دبابة الميركافا.

في هذا السياق، أُبرمت اتفاقات في غزة ولبنان، بوساطة أمريكية نشطة: ويتكوف في غزة، وهوكشتاين في لبنان.. اتفاقات وُجدت لكي تُنتهك، ومن قبل إسرائيل حصرًا، وبدعم والتزام من واشنطن، وبتبنٍّ كامل للرواية والرؤية الإسرائيليتين.

وقد يتم خرق وقف النار مع إيران في أي لحظة، وستنبري واشنطن للدفاع عن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وسيتم إبرام اتفاقات أخرى على الجبهات ذاتها أو على جبهات أخرى، وسيتم خرقها جميعاً، وستظل واشنطن تبرر الرواية الإسرائيلية، وسيظل وسطاؤها على تفاؤلهم بقرب التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات جديدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة